إنّ العقل البشريّ الجادّ والنّابه يهتزّ للمعرفة، ويحتفي بها في كلّ مكان متَى ما توافرت المعطيات، وامتدّت لها المقوّمات والأسباب، غير أنّها تسقط من حساب مَن يعتبرها ملهاة وتسلية، وتسقط من عداد مَن يظنّها فسحة أشبه بالتّلهي والسّخف والمجانة وتزجية الفراغ، وهذا -وأيم الله- هو علّة ما طرأ عليها من التّفرج السّخيف، والبهرج الكاذب!!
إنّ معارض الكتب تُعدّ مصدرًا جوهريًّا من مصادر الوعي والمعرفة، وما يتصل بهما من شؤون الثقافة وشجونها، ونافذة حيّة لمسارب الفكر والفلسفة عمومًا، وتلبية صادقة لدواعي العلم والحضارة والتّقدم.
كما أنّ معارض الكُتب -على الإجمال-ِ أشبه بسياحة ماتعة يستقي منها السّائح أفانين من الأفكار والرّؤى، عطفًا على ما تقدّمه من اختلاف في الطّرح والرؤية، وصياغة الأفكار؛ لأنّ قراءة الكِتاب في جوهرها حياة، حياة من نوعٍ خاصّ، يتملاها القارئ في نفسه، ويتأمّل آثارها في عقول غيره، وليست حياة ساردة لاهية يملأها الغيّ واللهو، وتزجية الفراغ والضّياع.
فهل يصحّ أنْ نقول: إنّ المعارض -أيًّا كان تصنيفها ومستوياتها، وما يتّصل بها من عروض معرفيّة وثقافيّة- تُعدّ مرآة عاكسة لمدى تقدّم الأممِ وتحضّرها، وسبيلاً جوهريًّا، ومعرفيًّا، وثقافيًّا لنجاحاتها ونجاعتها، وغيابها، في المقابل، يُعدّ بمثابة العنوان البارز للتّخلف، وسبيلاً للتّأخر الحضاري، ووصفًا للتّقهقر المعرفي!!
كلّ تلك التّساؤلات جديرة بالطّرح والمناقشة، كما أنّها قمينة بالإجابة عنها، والخوض فيها كلّما لاحت في الأفقِ بوادر إقامة أحد المعارض، وإنْ تعدّدت أشكالها، وصورها، ومنافعها، ومدى الاهتمام بها.
فكما لا تتّفق النّفوس والأفهام في تقدير الملابس والأجسام، وتثمينِ الحليّ والجواهر، فهي -أيضًا- لا تتّفق، في تقدير ما يُعرض من كتب، ولا تستوي في تثمين ما يُقرأ منها وما يُستبعد، وهذا ما يدفع -برأيي- إلى الاستزادة في إقامة معارض الكتب، والتّوسع في دورانها، وتنقّلاتها في كلّ مكان وزمان يصلح لإقامتها؛ فحيثما وجد القارئ النّابه والجادّ، وجد حينئذٍ الكِتاب الجيّد والمثمر.
هناك مَن يفهم أنّ معارض الكتب فسحة متميّزة من الفسحات حبًّا في العلم والنّهم بالنتاج المعرفي، ومتابعة لثمرات القرائح والعقول؛ ليضيف إلى زاده المعرفيّ زادًا جديدًا، في مقابل من يعتبر أنّ إقامتها -ولعًا بالتّفسح والتّسلية، وتزجية الوقت، وقتل الفراغ وشراء الكتب للزّركشة والتّزييف وادّعاء المعرفة والتّزلف بها في معرض المباهاة والمفاخرة، دون أن يكون لها حضور بقراءة صالحة للتّفكير، وتصحيح الأفهام وتقويم الأخلاق وتهذيب الوجدان، وهؤلاء لا قيمة لهم في عالم الفكر والمعرفة؛ فضلاً عن الضّرر الذي يلحق القائمين على المعارض بمزاحمة الجادّين في البحث عن كتاب نافع!!
وإذَا بدَا لمرتادي معارض الكتب أنّهم ينظرون إليها بعين لاهية لاعبة، فقد آذنت حياتهم بالخلوّ من الجدّ والعزم، ودلّ ذلك على ضعفهم، وخورهم، وحقارة الشؤون التي يمارسونها.
وعلى هؤلاء مَن لفّ لفهم أن يفهموا أنّ العلوم والمعارف، وكلّ الفنون والآداب هي ترجمان للعقول، كما أنّها ترجمان لحياة صادقة حيّة، فحيثما تكون المعرفة تكون الحياة، إن جدًّا فجدّ، وإن هزلاً فهزل.
إنّ أصحاب المعرفة قد يجدون الأمّةَ هازلة ساردة؛ ولكنّهم قلّما يهزلون، والأمّة جادّة متيقظة.
ساري الزهراني
……………………………………………………….ز